عاد فيصل إلى بيت والده في القرية بعد سنوات من الغياب. كان الشتاء قد بدأ يبرد ليالي القرية، والسماء ملبدة بالغيوم الرمادية. الطريق الترابي إلى البيت يلمع بعد مطر خفيف، والهواء يحمل رائحة طين وبقايا حطب محترق من بيوت الجيران. وقف أمام الباب الخشبي العريض المزخرف، لمس المقبض فشعر بخشونته الباردة. هذا هو البيت الذي قضى فيه طفولته، لكن شيئًا فيه بدا مختلفًا اليوم؛ كأنه ينظر إليه بعيون غريبة.
دخل إلى المجلس حيث يجلس والده وإخوته على سجاد قديم يتصاعد من زواياه بخور العود. فناجيل القهوة العربية تتصاعد منها رائحة هيل دافئة، وصوت التلفاز منخفض في الخلفية. تبادل معهم أحاديث قصيرة عن العمل والسفر، لكن نظره كان ينجذب مرارًا إلى ممر طويل ينتهي بباب خشبي أزرق مغلق بإحكام. كان يعرف تلك الغرفة؛ الغرفة التي كانت تسكنها الخادمة الإندونيسية “سري” قبل أن تموت فجأة قبل أكثر من عشر سنوات. والده كان دائمًا يوصي بعدم فتحها.
بعد منتصف الليل، حين نام الجميع، بقي فيصل يقلب هاتفه وهو يستمع إلى أنفاس البيت القديمة. الريح تهز النوافذ الخشبية، وصوت قطرة ماء يتكرر من سطح الحمام. لكنه سمع صوتًا آخر، خافتًا يأتي من جهة تلك الغرفة المغلقة؛ همسًا مبحوحًا يشبه اسمه. رفع رأسه فجأة والهواء أصبح أبرد حوله. وضع هاتفه جانبًا ونهض وهو يشعر بثقل غريب في صدره.
أخذ فانوسًا صغيرًا من فوق الطاولة ومشى بهدوء في الممر. البلاط البارد يصدر صريرًا تحت قدميه، والجدران تضيق عليه كلما اقترب. رائحة قديمة تملأ أنفه الآن، رائحة عطر نسائي كان يشمه في طفولته عندما تمر “سري” بجانبه. وقف أمام الباب الأزرق ومد يده إلى المقبض. المعدن كان باردًا كالثلج رغم أن المدفأة ما زالت مشتعلة في المجلس. دفع الباب ببطء.
انفتح الباب يصدر صريرًا طويلًا كأنه تنهيدة. الغرفة باردة ومظلمة، جدرانها مليئة بخدوش قديمة، والهواء ساكن إلا من أنفاس غير مرئية تتحرك حوله. في الزاوية كرسي مهترئ وفوقه وشاح ملون يعرفه جيدًا؛ كان ملكًا للخادمة. ضوء الفانوس بدأ يرتجف حتى صار يرقص على الجدران في أشكال غريبة. شعر فيصل ببرودة تلامس رقبته رغم أنه وحده.
جلس الكرسي يهتز وحده ببطء. من بين العتمة خرج صوت نسائي مبحوح: «رجعت… بعد كل هذا الوقت.» الكلمات خرجت كأنها تتسرب من الجدران نفسها. تراجع فيصل خطوة إلى الوراء، لكن الباب خلفه انغلق فجأة بصوت مكتوم. الفانوس خفت ضوءه أكثر، والظل في الزاوية بدأ يتكوّن.
رأى هيئة امرأة بعباءة قديمة تقف خلف الكرسي. وجهها غير واضح، لكنه يعرف تلك الوقفة، تلك اليد التي كانت تصب له الشاي صغيرًا. كلما حاول أن ينطق باسمها يخرج صوته مبحوحًا. رفعت يدها ببطء تشير إليه أن يقترب. الهواء صار أثقل حتى أحس أنه يغوص في الأرض.
حاول فيصل أن يتحرك لكن قدميه التصقتا بالأرضية الباردة. أصوات أقدام حافية تدور حوله في الغرفة، والوشاح على الكرسي يتحرك بلا يد. همس الصوت مرة أخرى: «كنتُ أنتظر هذا اليوم.» في تلك اللحظة انطفأ ضوء الفانوس تمامًا، ولم يبقَ سوى عتمة كثيفة تتنفس.
فتح فيصل عينيه فلم يرَ الغرفة كما كانت. كان يقف في مكان يشبه الغرفة لكنه أوسع بلا جدران، السقف سماء سوداء بلا نجوم، والأرض بساط قديم يمتد بلا نهاية. أمامه الخادمة تبتسم ابتسامة مائلة وعيناها بيضاء بالكامل. رفع يده ليصرخ فلم يخرج صوت. الخطوة التالية أخذته إلى الداخل، إلى فراغ لا يشبه أي شيء عرفه من قبل.