كانت الساعة تقترب من منتصف الليل عندما جلس سالم في غرفته يحاول إنهاء عمله على الحاسوب. الشقة صغيرة في عمارة قديمة بحي هادئ، والجدران مطلية بلون أبيض صار يميل إلى الصفرة بفعل السنين. في المطبخ غسالة الصحون متوقفة منذ أشهر، والهواء يحمل رائحة زيت قديم وبقايا بهارات. رفع رأسه فجأة وهو يلتقط صوت حركة أواني خافتة من المطبخ رغم أنه يعيش وحده.
توقف عن الكتابة وأرهف السمع. صوت خربشة معدنية، وكأن أحدًا يحرّك ملاعق في درج مغلق. صوته الداخلي قال: «القطط ربما دخلت من النافذة.» لكنه تذكّر أنه أغلق كل النوافذ بسبب البرد. قلبه بدأ يخفق أسرع من المعتاد وهو يتخيل المطبخ المعتم الآن خلف الجدار.
نهض من كرسيه بحذر. كلما اقترب من المطبخ خفت الصوت حتى صار صمتًا خانقًا. المصباح في الممر أصدر وميضًا قصيرًا ثم عاد ضعيفًا، والهواء أصبح أكثر برودة. رفع عينيه إلى الباب فوجده مواربًا، يهتز ببطء كأنه يتنفس. لم يتذكر أنه تركه هكذا. مد يده إلى الجدار ليلمس مفتاح الضوء لكنه تردد.
خطى إلى الأمام ببطء حتى وصل إلى العتبة. المقبض بارد كالثلج رغم حرارة الصيف. دفع الباب ليدخل فإذا بالهواء داخله مختلف، أثقل وأعمق، كأن المطبخ أصبح أكبر من حجمه. حين مد قدمه الأولى شعر بأن الأرض ليست نفسها؛ بلاط مبلل رغم أنه لم يغسله اليوم. قطرات ماء باردة علقت بقدمه العارية.
رفع رأسه فإذا بالمطبخ مظلم أكثر مما ينبغي. النور الخافت من الشارع لا يصل إلى زواياه، والظلال تلتف على بعضها. في منتصف المكان انفتح ممر طويل لم يره من قبل، يمتد بعيدًا نحو العتمة. ريح باردة انبعثت من الداخل تشبه أنفاس أحد ما. ارتجف سالم خطوة إلى الخلف لكن الفضول كان أقوى من الخوف.
دخل خطوة ثانية فشعر أن الجدران خلفه تبتعد. حاول أن يلتفت ليعود لكنه لم يجد باب المطبخ بعد الآن؛ خلفه جدار أملس لا نافذة فيه ولا مخرج. أمامه الممر فقط، جدرانه بيضاء بلا نهايات، أرضه مبللة، وصوت قطرات ماء يتردد بلا مصدر. الهواء هنا له رائحة معدن بارد وشيء يشبه الدم الخفيف.
أخذ يسير في الممر وهو يشعر أن خطواته تتردد بصدى أكبر من المكان. كلما تقدم سمع أصوات همس بعيدة لا يفهم كلماتها، لكنها تردد اسمه أحيانًا وتضحك. لمس الجدار بيده فوجده دافئًا، ينبض نبضًا خفيفًا. انتبه أنه لا يسمع الآن صوته الداخلي، وكأن الممر ابتلع أفكاره.
تسارعت أنفاسه وبدأ يركض. الممر لم ينتهِ، الأرضية تبللت أكثر، الضوء صار أزرق باهتًا، والأصوات تحولت إلى صرخات مكتومة. شعر بأن المكان يضيق عليه وأن السقف يهبط ببطء. فجأة سمع صوتًا خلفه يشبه صوته هو: «لماذا دخلت؟» التفت بسرعة فلم يجد أحدًا، لكن ظله على الجدار كان ما زال يجري رغم أنه توقف.
توقف عن الركض وأغمض عينيه ليلتقط أنفاسه. عندما فتحهما وجد نفسه في منتصف المطبخ من جديد، لكن كل شيء فارغ؛ لا أوانٍ ولا طاولة ولا حتى الباب الذي دخل منه. فقط مساحة بيضاء كبيرة تمتد بلا نهاية، والهواء ساكن كقلب ميت. همس صوته الداخلي أخيرًا: «هذا هو الفراغ…» ثم اختفى الصوت.
جلس سالم على الأرض، يده على صدره، يحاول أن يتذكر شكل المطبخ. لم يعد متأكدًا إن كان دخل من الباب أو أن الباب دخل منه. حوله فقط مساحة لا تحدها جدران ولا سقف، والظلام يتنفس ببطء كأنه يستعد لابتلاعه بالكامل.